سنغافورة ماذا نتعلم من هذا البلد الآسيوي المولع بالنظافة لدرجة جعلته يحظر العلكة 2022

وُضعت القيم المثالية في سنغافورة على المحك وقتما تفشى فيروس كوفيد 19، بوقت صرت فيه إجراءات النظافة الشخصية الجيدة موضوع حياة أو وفاة.

في جميع مرة أخطو خارج الطائرة، توقظ حواسي ثلوجة مكيفات الرياح وعبير زهور الأوركيد الذي يفوح من معطرات الأحوال الجوية الشائعة في أرجاء مهبط الطائرات. فعلى الرغم من أن مهابط طائرات العالم جميعها قد تظهر متقاربة في الشبه وتبعث على السأم، بل الإتيان إلى مهبط طائرات شانغي، سواء اليوم أو قبل تفشي فيروس كوفيد 19، يعتبر مسعى سنغافورية لا تضاهى.

وفي الطريق إلى نقطة رصد الجوازات، ستستنشق هواء معطرا وترى جدرانا خضراء أنيقة شديدة النظافة ونوافير مياه منسقة، وفرق عمال نظافة، من الإنس وأجهزة الربوت، ودورات مياه متقدمة مزودة بشاشات تفاعلية لعرض التعليقات.

وإذا كنت تتخيل أن البلدة سوف تكون بنفس المعدّل من النظافة والترتيب، فوقتما تطلع من مهبط الطائرات لن يخيب ظنك.واشتهرت سنغافورة على صعيد العالم بطرقها المرصوفة بإتقان ومتنزهاتها العامة المشذبة برعاية، وشوارها النقية الشاغرة من الزبالة، ووصفتها مجلة نيويورك تايمز بأنها مقر “صارم النظافة إلى درجة أن العلكة فيه تعتبر من المواد الخاضعة للرقابة”كن الحذر والتدقيق على النظافة ليس من أجل حماية وحفظ الهيئة الخارجية المثالي فقط، ففي ذلك الدولة الضئيل الذي لم ينل استقلاله سوى منذ أدنى من 56 عاما، صارت النظافة مرادفا للنهضة الاجتماعية والتطور الاستثماري غير المسبوق، وفي النهاية، التعاون في احتواء فيروس كوفيد 19.

وفي حين قد لا يظن المواطنون أن نظافة بلادهم لا مثيل لها، على الأرجح من باب التواضع، فإن حكام سنغافورة بذلوا كل ما بوسعهم لحماية وحفظ تلك الصورة العامة الناصعة. ويقول دونالد لو، الأكاديمي السنغافوري والمفتش في السياسة العامة: “إن إدارة الدولة السنغافورية تحرص باستمرار على توطيد تلك الصورة المثالية الناصعة للبلاد. وقد كانت النظافة في الافتتاح صبر معنيين، النظافة النقدية ـ بمعنى نظافة المناخ- ونظافة يد إدارة الدولة والمجتمع، أي عدم التهاون مع الفساد”.
وقد كان تحري النظافة المثالية في البلاد يستوجب اتخاذ خطوات جدية، مثل تعديل أنظمة دفع صحي عالية التميز، ووضع برامج لمقاتلة حمى الضنك والأمراض، وتطهير مجرى مائي سنغافورة صارم الدنس على دومين عشر سنين، وبذر الأشجار في مختلف مناطق الجزيرة، وجمع بائعي التغذية، الذين كانوا منتشرين في كل شوارع العاصمة سابقا، في متاجر تعلوها الأسقف.
ومهد تغير للأحسن الظروف البيئية في البلاد، ونجاح سنغافورة في استقطاب المستثمرين والسياح على السواء، الطريق للنمو الاستثماري غير المسبوق الذي شهدته البلاد. وتتصدر العاصمة سنغافورة في الزمن المتواجد لائحة المدن الدولية ذات أسمى الظروف الاجتماعية، مثل الاطمئنان الشخصي وإجادة وأصالة المعيشة. ويصنف نمط اقتصاد مكان البيع والشراء الحر الذي تتبناه سنغافورة واحدا من أهم النظم تسابقيةً في الكوكب.

ولا شيء يمثل حيوية تلك الجمهورية المفعمة بالطاقة في العصر المحادثة، بمقدار ما يجسدها الحي التجاري المركزي، إذ ناطحات السحاب البراقة التي تحوي معها المراكز الأساسية لآلاف المؤسسات الدولية، والفنادق الفاخرة الدولية، مثل فندق “مارينا باي ساندز” الذي صممه موشيه صفدي. فهذا الحي باعتبار التجسيد المثالي لمنام مؤسسه رئيس حكومة سنغافورة.
وقد دعاني هذا للتساؤل، عن مجال نظافة شوارع سنغافورة بعيدا عن مراكزها التجارية، فلا شك أن ناطحات السحاب البراقة والفنادق المصممة على مظهر سفن والنوافير والبرك الاصطناعية لا ترسم صورة دقيقة عن هيئات خارجية الحياة اليومية هنا.

وحينما تجولت في قلب العاصمة والشوارع التي قليلا ما يرتادها السياح، وجدت مبان سكنية رسمية مصفوفة بنظام ومتنزهات عامة مشذبة بمراعاة ومراكز للطعام تراعي محددات وقواعد النظافة العامة، وكل شيء بدا على صعيد باهظ من النظافة.
ويصطحب يينزهو الزائرين في جولة في نطاق منازل الدعارة والحانات والمحيط الاجتماعي في الحي الذي قد يعطي الإنطباع أنه لا يمت بصلة للمجتمع السنغافوري الذي اشتهر بأنه متزمت أخلاقيا.

بل بصرف النظر عن التفاوت الصارخ بين حي غيلانغ وبين عموم أحياء سنغافورة التي تتناسب مع جميع أشخاص الأسرة، لكن غيلانغ لا يظهر خطيرا أو خارجا عن التشريع. ففي ذاك الحي الذي تنتشر فيه باتجاه خمسمائة كاميرا رصد، قد تحس بأن تلك الجوانب العصية على الإشراف الرسمية – من الجهود غير الأخلاقية إلى تعاطي المواد المخدرة- لا تغفل عنها السُّلطة التي إستطعت من احتوائها بعناية و”تنظيفها مرة تلو الأخرى”، على حسب نعت وتصوير يينزهو.وصرح واحد من المرافقين السنغافوريين في الجولة السياحية بحي غيلانغ: “يمكن لك هنا أن تشاهد سنغافورة الحقيقية، ولابد من يكون في إطار لائحة المزارات السياحية”. ووافقته الإقتراح على هذا. فربما لا يوضح حي غيلانغ ناصعا، لكنه لا يتعارض، بطريقته المخصصة، مع الصورة المثالية للمجتمع النقي وغير التالف التي تحرص البلد على ترسيخها.

وقد وضعت تلك القيم المثالية السنغافورية على المحك العام السالف. فمنذ أن أسس كوان يو حملاته الحماسية للنظافة في خاتمة الستينيات، لم يحظ الحذر والتدقيق على النظافة بذاك القدر من اللزوم الذي حظي به في الزمن المتواجد. ففي وقت أعاد فيه تفشي فيروس كوفيد 19 مقر الأولويات في الدنيا، صارت أعمال النظافة الشخصية الجيدة تعد قضية حياة أو وفاة.

وقد نالت رد فعل سنغافورة لفيروس كوفيد 19 تقدير دولية واسعة. وخلافا لمعظم دول العالم التي شرعت في الانتباه بالصحة العامة رد فعل للوباء، فإن سنغافورة، بفضل البنية الأساسية المتقدمة للحالة الصحية العامة، كانت مهيأة مسبقا للتداول مع الآفة.

ويقول تاي جي تشونغ، مدير مصلحة النظافة العامة بوكالة الظروف البيئية الوطنية بسنغافورة: “لقد دربنا ضباطنا على تأدية أعمال التعقيم والتطهير في موقف انتشار الأمراض المعدية قبل أن يبلغ جائحة Covid 19 إلى شواطئنا”.

ويقول تشونغ، الذي صمم دورة تعليمية بالترتيب مع معهد سنغافورة بوليتكنيك في سنة 2017، إن العاملين “كانوا مجهزين بمهارات ومعلومات عن طرق التعقيم والتعامل مع المطهرات والإجراءات الطموح واستخدام المعدات الواقية في وضعية تفشي الأمراض المعدية في سنغافورة، واستفادوا من تلك الخبرة حالَما ظهرت أول ظرف خبطة بفيروس Covid 19 العام السالف”.
وتوجهت إلى حي غيلانغ، الذي اشتهر بالطعام الإقليمي الشهي، وبأنه المكان الوحيدة التي يتيح التشريع فيها إعتياد أداء البغاء في البلدة. وقلت لنفسي إن تلك المكان مما لا شك فيه هي سنغافورة الحقيقية.

وبعد إجابات الظلام، مشيت في شوارع الحي التي تضيئها لافتات بمصابيح النيون التي تنشر عن دكاكين الدعارة وحجرات الكاريوكي والمقاهي الليلية التي تبيع عصيدة من أقدام الضفادع، واحد من المأكولات الشعبية المحلية. ويقول كاي يينزهو، الذي كان يقف بجانبي في واحد من الأزقة خافتة الإنارة: “ذاك المقر بكون بؤرة الفساد في سنغافورة، ويقف على طرف الضد من ناطحات السحاب الأنيقة التي تراها في الحي التجاري المركزي”.

ويدير يينزهو، الذي نشأ وسط عاملات الجنس ومنظمي إحتفاليات القمار، حاليا مؤسسة لتقنين جولات سياحية لاستكشاف المناخ الاجتماعية بالحي، المتوارية وراء الجهود غير الأخلاقية أو المطاعم التي اشتهر بها الشارع بين أكثرية قاطنين البلدة.
بل أكثر ما كان يزعج كوان يو هو أن الفضائيات والمواقع والصحف الأجنبية لم تهتم بإنجازاته بمقدار اهتمامها بقراره منع مضغ العلكة الذي كان مثار جدل دولي. وأكثرية التوهم أنه لم يتنبأ أن يحرض ذلك الدستور الذي عرَضه عام 1992 لتقليص مصروفات تنقية زبالة العلكة التي يلقيها الناس على الأرض حتى الآن مضغها في المقار العامة، مثل شبكة النقل العام الحديثة، ذاك الدرجة والمعيار من الانتباه الدولي.
ويعلق لو بالقول إن دستور منع العلكة سيء الصيت قد يعتبر استثناء في عملية وحط الخطط والإستراتيجيات في سنغافورة. ويقول: “إن إدارة الدولة السنغافورية تلجئ عادة للحوافز (أو الجزاءات) النقدية لكبح المبادرات التي قاسى المجتمع تكليفات تكميلية، عوضا عن تكليف تجريم على الفور”، ويضرب مثالا على هذا، بضريبة غازات احتباس الغازات الدفيئة الأخيرة التي فرضت لتقليص الانبعاثات وتحميس الناس على استعمال الطاقة النقية.
صحيح أن استهلاك العلكة في سنغافورة ليس مخالفا للقانون حاليا، فإذا هرّبت عبوة من العلكة 1/2 مملوءة دون غاية في حقيبة أمتعتك لن ينتهي بك المطاف في السجن، إلا أن بيع العلكة ما يزال محظورا.
ودشنت البلد حملات غفيرة للحفاظ على النظافة العامة تستجلب انتباه المدنيين للإسهام فيها. وأفصح كوان يو بمناسبة إطلاق حملة “حافظوا على نظافة سنغافورة” عام 1968، التي صارت حاليا حملة سنوية للتخلص من المخلفات أن “حماية وحفظ نظافة المجتمع يحتاج دراية المدنيين بمسؤولياتهم”. وأثارت مفردات لي كوان يو العواطف القومية الجديدة بين السنغافوريين، واستنهضت الروح الجماعية داخل المجتمع والتي رأى أنه لن يستطيع من دونها من تحري الغايات القومية.
وبعد انفصالها عن ماليزيا في سنة 1965، وحط رئيس مجلس الوزراء السنغافوري آنذاك لي كوان يو، أهدافا طموحة لتغيير بلاده إلى “واحة متطورة وسط مكان من دول العالم الثالث”.وطورت سنغافورة حلولا صحية تكنولوجيا للمحافظة على الحالة الصحية العامة، مثل تطبيقات تليفون تسمح للمواطنين الاستحواذ على الكمامات، وتقنيات ماهرة لقياس درجة سخونة البدن في الاحتشادات، و”كلاب آلية” تجوب المتنزهات العامة لتأدية إجراءات التباعد الاجتماعي.

وقد كانت الأحكام والخطط والإستراتيجيات الرسمية لازمة لاحتواء الفيروس، ولم يجد رؤساء الدول مفرا من مطالبة المدنيين بالالتزام بالكثير من الممارسات والإجراءات لتقليص انتشار الآفة. وفي سنغافورة، إذ كان ارتداء الكمامات وتعقب مخالطي السقماء إجباريا، التزمت الغالبية العظمى من المدنيين طوعا بالممارسات والتدابير الوقائية.

ولم يكن ذلك مستغربا في مجتمع تأصل في ثقافته إرث النظافة، واعتاد على الامتثال لسياسات النظافة العامة التوجيهية والتعاون بين أشخاص المجتمع، حتى صرت تلك الثقافة أمرا معتادا.

ويقول لو مفسرا: “اعتقد لي كوان يو، أن تلك الغايات لو تحققت في بلاده قريبة العهد العهد بالاستقلال والحريصة على اجتذاب المستثمرين الأجانب، ستميز سنغافورة عن مختلَف بلدان في جنوب في شرق آسيا. و قد كان محقا في هذا”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اتصل الآن واتساب
Verification: d0f7863b49841a9a اتصل الان